الجمعة، 28 مارس 2014

فتاة المصنع



خان وفتاة مصنعه


مجتمع آخر وقواعد أخرى ينقلها محمد خان بفيلمه "فتاة المصنع" إلى الجميع، دعوة للمتابعة والتأمل فى حياة مجموعة من المصريين أصبحوا هم الشغل الشاغل للسينما المصرية مؤخراً، وأصبحت قصص وحكايات المناطق الشعبية ومغامرات أبطالها هي ما يريدها جمهور الأفلام فى المواسم، خان ومؤلفة الفيلم وسام سليمان ذهبا لنفس المنطقة، لكن بمقاييسهم بدون راقصة وموسيقى من نوعية المهرجانات، فقط هيام (ياسمين رئيس) الفتاه التى تعمل فى مصنع ملابس جاهزة وتتحول حياتها بسبب مشاعر الحب التى تكنها لمشرف المصنع الذى تعمل به، الفيلم عن حكايتها مع من حولها، أم ورثت عنها قوة شخصية وحنكة فى المواجهات، وخالة استمدت منها القدرة على المراوغة وايجاد حل لأى مشكلة، وجدة أخذت منها قسوة تستخدمها أحيانا عند الاحتياج، وصديقة وزملاء عمل وزوج أم وحياة كاملة تدور حول الفتاة الشابة من وإلى الحارة الشعبية حيث البيوت المتلاصقة وغياب الخصوصية.
محمد خان بفيلمه يقدم نظرة أخرى لموجة أفلام الحارة والمناطق الشعبية وشخوصها، مانحاً هذا الشكل الجديد قبلة حياة بعد ما تعرض للعديد من الانتقادات بسبب التدنى الفنى فى التناول، ومن خلال العودة لطريقة تناول الموضوعات الاجتماعية فى السينما أربعينات وخمسينات القرن الماضى، وبكلاسيكية شديدة الحدة يعرض خان تفاصيل حياة فتاته ومعها مصر، أقترب من كليشيهات أفلام الأبيض والأسود والتى قد تؤدي لانهيار العمل ككل وتضعفه فنياً لكنه لم يستخدمها، وكل ما تظن أن العمل سيقع فى هذا الفخ يخرج خان بمنتهى السهولة ومعه نقطة قوة فى سير الأحداث.
الثورة المصرية التى أعلن المخرج الكبير مرارا أنه لن يتناولها فى عمل فنى قبل مرور سنوات، مرت مرور الكرام فى الفيلم فى مشهد قد يبدو لأي عين وكأنه مفتعل غير حقيقى، لكن مع التدقيق ستجد أن الهتافات المسيطرة هى لنصره المرأة وحثها على الاستمرار في نضال عادات سيئة فى مجتمع لا يحترمها، لتبدو المظاهرة وكأنها عنصر مكمل بديلا عن الموسيقى التصويرية فى مشهد المواجهة بين هيام ومن تحب، والتى حسمتها لصالحها، ليس للمظاهرة أي غرض سياسى ولم يحد خان عن قراره حتى مع اللقطات التى تظهر جرافيتى باهتا غير واضحة معالمة فقط يدرك العقل هذا اللون من الفن دون أن يظهر شعار سياسى أو توجه ما، فقط جرافيتى الراحلة سعاد حسنى المُهدى لروحها الفيلم هو فقط الواضح، لتبقى الرؤية الاجتماعية فقط وتغيب السياسية.
لم يعتمد خان فى رؤيته الفيلمية على سيناريو وسام سليمان ورسم شخصياتها عبر دقائق الفيلم الأولى بالحوار المتبادل بين أبطاله، لكنه اعتمد بشكل كبير على لغة السينما، واستعاض عن الحوار بالصورة فى مواقف عدة، منها حالة الضيق التى عانتها البطلة بعد فشلها فى لقاء من تحب، تسير بمحاذاة سور مترو الانفاق المرتفع على رصيف صغير يمينا، يوازيها يساراً كوبري ضخم، اللقطات من زاوية مرتفعة تنظر لأسفل، من أعلى السماء مفتوحة والاتساع والالوان الصافية تسيطر على كل شئ، لكن بجانب البطلة ضيق ولون رمادى وطريقتها فى السير بطيئة محبطة، هى لا ترى التفاؤل وقدرتها على المقاومة لكن المشاهد يراها فى جرافتي سعاد حسنى المستقر على بداية السور والذي أصبح أيقونة فى مقاومة المرأة لعادات المجتمع المناهضة لها.
استخدم المخرج أيضا تفاعلات شخصيات الممثلين فى خلق حكايات وقصص ترك تصوراتها للمشاهد، دون أن يكون للحوار دوراً فيها، المشكلة التى بدأت باختبار حمل غير معروف صاحبته لمح المخرج بالصورة عن قصته فى مشهدين صامتين، خروج البطلة من حمام المصنع لتقابل فتاة اخرى تعمل معها، والثانى عندما انتشرت الشائعات بنظرة من الفتاة التى قابلتها البطلة أثناء خروجها من الحمام، وكأنه يدلل أنه فى هذا المجتمع كل شيء مترابط وهناك العشرات من القصص غير المحكية التى قد لا يترابط أطرافها لكنها تؤثر فيهم على الرغم من عدم معرفتهم الوثيقة ببعضهم البعض.
اختيار وحركة شخصيات فتيات المصنع وعاملاته ورئيستهم داخل الفيلم اتسمت بعدم وجود أي شيء مميز أو لافت فيهم، ومعهم بعض أبطال الفيلم الذين تاهت اسمائهم مع زحمة الأحداث كإشارة للتعميم وللتأكيد على كثرة وجودهم، فهم كالنماذج تجدهم فى كل مكان، اختيار أماكن التصوير مع حركة الكاميرا فى الأماكن الضيقة الفقيرة ماديا التى تمثل أغلب مشاهد الفيلم جعلت رؤية خان باستخدامه للألوان المبهجة الحارة غنية بالمشاعر والحيوية، وضيق المساحة تحول لحميمة شديدة بين الشخصيات، يكفى فقط أن تقف البطلة فى البلكونة وتنطق باسم صديقتها نصرة (ابتهال الصريطى) حتى تجد استجابة من شباك يبتعد عن البلكونة أمتار قليلة، والتصوير في هذه الظروف مع ضيق المساحات حمل عبئه مدير التصوير محمود لطفى.
سلوى محمد على، وسلوى خطاب، أصحاب شخصيتي الأم والخالة، لا يمكن وصف أدائهم سوى بكلمات تعبر عن التمكن والموهبة، هذا ليس جديد على كلتاهما، فقد أصبح من الطبيعى والمنطقى عندما يقرران أداء شخصية، أن تظهر هذه الشخصية بكامل بهاءها مضاف عليها تفاصيلهم وترجمتهم الادائية لها بشكل يجعل كل شخصية وكأنها بصمة وراثية لا تتكرر، ياسمين رئيس عبرت عن قوة وصلابة الشخصية وخوضها حرب شخصية ضد الجميع فقط بتحمل كم من الاهانات لتثبت موقف وأن من حقها الحب، النجاح والفشل بقواعدها دون الخوض فى شرفها وعرضها، على الرغم من صعوبة ذلك لأن الصورة التى ستتكون سريعا عند مشاهدة هيام هى فتاة شابة تقع فى الحب للمرة الأولى، تحمل أحلامها فوق جسد ضئيل، وهو الأمر الذى ألقى كامل العبء على قدرتها التمثيلية لتعويض هذا الفارق، الذى يعبر فى حقيقته على رمزية الصراع الحالى بين المرأة والمجتمع ونظرته لها، هانى عادل أيضا نجح فى كسر الايهام الذى صنعته أدواره السابقة والتى لا تضم شرا مطلقا، ونجح فى أن يكون نذلا شرقيا باقتدار.
لعل أكثر ما يميز الفيلم كونه طبيعيا ولا يحمل أي علامة مميزة، هو ببساطة جزء من هذا المجتمع لا يدركه الكثيرون، عنصرية ضد المرأة، وعنصرية بين أبناء الطبقة الواحدة بسبب اختلاف الخلفيات الثقافية، وعنف يلجا إليه البعض عندما لا يوجد سبيل آخر للحل غيره، يحمل جمالاً من نوع خاص وبهجة حتى فى أشد مواقفه سوءا، هو فقط جزء غير مرئي من الواقع الحالي، رفضه أو قبوله لن ينفي وجوده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق